فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة القارعة:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 11):

{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}
{الْقَارِعَةُ} من أسماء يوم القيامة، كالحاقة، والطامة، والصاخة، والغاشية، وغير ذلك.
ثم قال معظمًا أمرها ومهولا لشأنها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؟ ثم فسر ذلك بقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أي: في انتشارهم وتفرقهم، وذهابهم ومجيئهم، من حيرتهم مما هم فيه، كأنهم فراش مبثوث كما قال في الآية الأخرى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ}
وقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} يعني: قد صارت كأنها الصوف المنفوش، الذي قد شَرَع في الذهاب والتمزق.
قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والضحاك، والسدي: الْعِهْنِ الصوف.
ثم أخبر تعالى عما يئول إليه عمل العاملين، وما يصيرون إليه من الكرامة أو الإهانة، بحسب أعمالهم، فقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي: رجحت حسناته على سيئاته، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} يعني: في الجنة. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي: رجحت سيئاته على حسناته.
وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قيل: معناه: فهو ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم. وعَبَّر عنه بأمه- يعني دماغه- روي نحو هذا عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي صالح، وقتادة- قال قتادة: يهوي في النار على رأسه وكذا قال أبو صالح: يهوون في النار على رءوسهم.
وقيل: معناه: {فَأُمُّهُ} التي يرجع إليها، ويصير في المعاد إليها {هَاوِيَةٌ} وهي اسم من أسماء النار.
قال ابن جرير: وإنما قيل: للهاوية أمه؛ لأنه لا مأوى له غيرها.
وقال ابن زيد: الهاوية: النار، هي أمه ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها، وقرأ: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [آل عمران: 151].
قال ابن أبي حاتم: وروي عن قتادة أنه قال: هي النار، وهي مأواهم. ولهذا قال تعالى مفسرا للهاوية: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}
قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى: حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال: إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين، فيقولون: رَوِّحُوا أخاكم، فإنه كان في غَمّ الدنيا. قال: ويسألونه: وما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جاءكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية.
وقد رواه ابن مَرْدَويّه من طريق أنس بن مالك مرفوعًا، بأبسط من هذا. وقد أوردناه في كتاب صفة النار، أجارنا الله منها بمنه وكرمه.
وقوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي: حارة شديدة الحر، قوية اللهيب والسعير.
قال أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي تُوقدون جزء من سبعين جزء من نار جهنم». قالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية. فقال: «إنها فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جُزءًا».
ورواه البخاري، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك.
ورواه مسلم عن قُتيبة، عن المغيرة ابن عبد الرحمن، عن أبي الزِّناد، به وفي بعض ألفاظه: «أنها فُضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلهن مثل حرّها».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد- وهو ابن سلمة- عن محمد بن زياد- سمع أبا هريرة يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «نار بني آدم التي توقدون، جزء من سبعين جزءا من نار جهنم». فقال رجل: إن كانت لكافية. فقال: «لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا حَرًّا فحرا».
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا سفيان، عن أبي الزياد عن الأعرج، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم- وعمرو، عن يحيى بن جَعْدة-: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد».
وهذا على شرط الصحة ولم يخرجوه من هذا الوجه، وقد رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن أبي الزناد.
ورواه البزار من حديث عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا».
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز- هو ابن محمد الدراوردي- عن سُهَيل عن أبيه، عن أبي هُريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم».
تفرد به أيضا من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم أيضا.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الخلال، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا مَعْن بن عيسى القزاز، عن مالك، عن عَمّه أبي سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادًا من دخان ناركم هذه بسبعين ضعفًا».
وقد رواه أبو مصعب، عن مالك، ولم يرفعه.
وروى الترمذي وابن ماجه، عن عباس الدَّوريّ، عن يحيى ابن أبي بُكَيْر: حدثنا شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة».
وقد روي هذا من حديث أنس وعمر بن الخطاب.
وجاء في الحديث- عند الإمام أحمد- من طريق أبي عثمان النَّهدي، عن أنس- وأبي نضرة العَبْديّ، عن أبي سعيد وعَجْلان مولى المُشْمَعّل، عن أبي هريرة- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان يغلي منهما دماغه».
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنَفَسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف. فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها».
وفي الصحيحين: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فَيح جَهَنم». آخر تفسير سورة القارعة.

.سورة التكاثر:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
يقول تعالى: شغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها؟!
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا زكريا بن يحيى الوَقار المصري، حدثنا خالد بن عبد الدايم، عن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} عن الطاعة، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حتى يأتيكم الموت».
وقال الحسن البصري: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} في الأموال والأولاد.
وفي صحيح البخاري، في الرقاق منه: وقال لنا أبو الوليد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي بن كعب قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يعني: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة: سمعت قتادة يحدث عن مُطْرِّف- يعني ابن عبد الله بن الشخير- عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟».
ورواه مسلم والترمذي والنسائي، من طريق شعبة، به.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول العبد: مالي مالي؟ وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فاقتنى وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
تفرد به مسلم.
وقال البخاري: حدثنا الحُمَيدي، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله».
وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثنا قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يهرم ابن آدم وتبقى منه اثنتان: الحرص والأمل». أخرجاه في الصحيحين.
وذكر الحافظ ابن عساكر، في ترجمة الأحنف بن قيس- واسمه الضحاك- أنه رأى في يد رجل درهما فقال: لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل: لي. فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغاء شكر. ثم أنشد الأحنف متمثلا قول الشاعر:
أنتَ للمال إذا أمسكتَه ** فإذا أنفقتَه فالمالُ لَكْ

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة قال: صالح بن حيان حدثني عن ابن بريدة في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثلُ فلان بن فلان، وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور. فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان؟ يشيرون إلى القبر- ومثل فلان؟ وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
وقال قتادة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ونحن أعَدُّ من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
والصحيح أن المراد بقوله: {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي: صرتم إليها ودفنتم فيها، كما جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده، فقال: «لا بأس، طهور إن شاء الله». فقال: قلت: طَهُور؟! بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تُزيره القبور! قال: «فَنَعَم إذًا».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، أخبرنا حكام بن سلم الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن المنْهال، عن زر بن حُبَيْش، عن علي قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}.
ورواه الترمذي عن أبي كُرَيب، عن حَكَّام بن سلم به وقال: غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سلمة بن داود العُرضي حدثنا أبو المليح الرقي، عن ميمون بن مهران قال: كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز، فقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فلبث هنيهة فقال: يا ميمون، ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله.
قال أبو محمد: يعني أن يرجع إلى منزله- إلى جنة أو نار.
وهكذا ذُكر أن بعضَ الأعراب سمع رجلا يتلو هذه الآية: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فقال: بُعثَ اليوم ورَب الكعبة. أي: إن الزائر سيرحل من مقامه ذلك إلى غيره.
وقوله: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال الحسن البصري: هذا وعيد بعد وعيد.
وقال الضحاك: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني: الكفار، {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني: أيها المؤمنون.
وقوله: {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي: لو علمتم حق العلم، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر.
ثم قال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} هذا تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تَوعَّدَهم بهذا الحال، وهي رؤية النار التي إذا زفرت زفرة خَرَّ كل ملك مقرب، ونبي مرسل على ركبتيه، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك.
وقوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك. ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا زكريا بن يحيى الخزاز المقري، حدثنا عبد الله ابن عيسى أبو خالد الخزاز، حدثنا يونس بن عبيد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة، فوجد أبا بكر في المسجد فقال: «ما أخرجك هذه الساعة؟» قال: أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله. قال: وجاء عمر بن الخطاب فقال: «ما أخرجك يا ابن الخطاب؟» قال أخرجني الذي أخرجكما. قال: فقعد عمر، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما، ثم قال: «هل بكما من قوة، تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعامًا وشرابًا وظلا؟» قلنا: نعم. قال: «مُروا بنا إلى منزل ابن التَّيهان أبي الهيثم الأنصاري». قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، فسلم واستأذن- ثلاث مرات- وأم الهيثم من وراء الباب تسمع الكلام، تريد أن يزيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام، فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى خلفهم، فقالت: يا رسول الله، قد- والله- سمعت تسليمك، ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرًا». ثم قال: «أين أبو الهيثم؟ لا أراه». قالت: يا رسول الله، هو قريب ذهب يَستعذبُ الماء، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله، فبسطت- بساطا تحت شجرة، فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرت عيناه بهم، فصعد على نخلة فصرم لهم أعذاقًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُكَ يا أبا الهيثم». قال: يا رسول الله، تأكلون من بُسره، ومن رطبه، ومن تَذْنُوبه، ثم أتاهم بماء فشربوا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» هذا غريب من هذا الوجه.
وقال ابن جرير: حدثني الحُسَين بن علي الصدائي، حدثنا الوليد بن القاسم، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: بينما أبو بكر وعمر جالسان، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما أجلسكما هاهنا؟» قالا والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع. قال: «والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره». فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟» فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء. فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال: مرحبا، ما زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم. فعلق قربته بكرب نخلة وانطلق فجاءهم بعذق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا كنت اجتنيت؟» فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم. ثم أخذ الشفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياك والحلوب؟» فذبح لهم يومئذ، فأكلوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتسألن عن هذا يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا، فهذا من النعيم».
ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان، به ورواه أبو يعلى وابن ماجه، من حديث المحاربي، عن يحيى بن عُبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بكر الصديق، به وقد رواه أهل السنن الأربعة، من حديث عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بنحو من هذا السياق وهذه القصة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سُرَيج، حدثنا حشرج، عن أبي نُصرة، عن أبي عسيب- يعني مولى رسول الله- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فمر بي، فدعاني فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتى أتى حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: «أطعمنا». فجاء بِعذْق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب، وقال: «لتسألن عن هذا يوم القيامة». قال: فأخذ عُمَرُ العذْقَ فضرب به الأرض، حتى تناثر البُسرُ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئول عن هذا يوم القيامة؟ قال: «نعم، إلا من ثلاثة: خرقة لف بها الرجل عورته، أو كسرة سَدَّ بها جوعته، أو جحر تَدخَّل فيه من الحر والقر».
تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، حدثنا عمار، سمعت جابر بن عبد الله يقول: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطبا، وشربوا ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه».
ورواه النسائي، من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن جابر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن صفوان بن سليم، عن محمود بن الربيع قال: لما نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فقرأ حتى بلغ: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قالوا: يا رسول الله، عن أي نعيم نُسأل؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: «أما إن ذلك سيكون».
وقال أحمد: حدثنا أبو عامر، عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا معاذ بن عبد الله بن حُبَيب، عن أبيه، عن عمه قال: كنا في مجلس فطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا: يا رسول الله، نراك طيب النفس. قال: «أجل». قال: ثم خاض الناس في ذكر الغنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالغنى لمن اتقى الله، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم».
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد، عن عبد الله بن سليمان، به.
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا شبابة، عن عبد الله بن العلاء، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزم الأشعري قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يسأل عنه- يعني يوم القيامة- العبد من النعيم أن يقال له: ألم نُصِحّ لك جسمك، ونُرْوكَ من الماء البارد؟».
تفرد به الترمذي.
ورواه ابن حبان في صحيحه، من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء بن زَيْر، به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا مُسَدَّد، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن حاطب، عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: لما نزلت: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قالوا: يا رسول الله، لأي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: «إن ذلك سيكون».
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من حديث سفيان- هو ابن عيينة- به ورواه أحمد عنه وقال الترمذي: حسن.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العدني، عن الحكم ابن أبان، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قالت الصحابة: يا رسول الله، وأي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: أليس تحتذون النعال، وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النعيم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني، عن ابن أبي ليلى- أظنه عن عامر- عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: «الأمن والصحة».
وقال زيد بن أسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يعني: شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم. رواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم، عنه في أول السورة.
وقال سعيد بن جبير: حتى عن شربة عسل.
وقال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا.
وقال الحسن البصري: نعيم الغداء والعشاء، وقال أبو قِلابة: من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي. وقول مجاهد هذا أشمل هذه الأقوال.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العباد فيما استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36].
وثبت في صحيح البخاري، وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث عبد الله بن سعيد ابن أبي هند، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
ومعنى هذا: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي، حدثنا علي بن الحسن ابن شقيق، حدثنا أبو حمزة، عن ليث، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فوق الإزار، وظل الحائط، وخُبْز، يحاسب به العبد يوم القيامة، أو يسأل عنه» ثم قال: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا حدثنا حماد- قال عفان في حديثه: قال إسحاق ابن عبد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله، عز وجل- قال عفان: يوم القيامة-: يا بن آدم، حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء، وجعلتك تَرْبَع وترأس، فأين شكر ذلك؟» تفرد به من هذا الوجه.
آخر تفسير سورة التكاثر ولله الحمد والمنة.